الحمد لله وحده والصّلاة والسّلام على من لا نبي بعده
تعود
بي الذّاكرة إلى الخلف حيث الْمَحُ ذاك الرّجل الذي كنّا نسميه الأمين ،
نعم أمين البلدة ،،، فبم نَال هذه المنزلة بين الأهالي ؟ وماذا قدّم لهم ؟
ذلك
ما أودّ أن أستجمع أفكاري لأستحضر تلك المشاهد التي قد لا يصدّقها جيل
اليوم وقد تخونني الذّاكرة لأن أغلبها رأيتُه في طفولتي فما قد أنساه وما
قد يفوتني ذِكْرهُ وما قد يكون خفي عنّي أرجو أن يضيفه من عايش تلك الأحداث
لعلّنا بذلك نتقدم بشيء من العِرفانِ لهذا الرّجل ، آملا أن يعذرني لأنه
من الذين عَمِلُوا وانسحبُوا من الميدان دون ضجيج ، أجل هو من الذين لا
يُحبُّون أن يَتَحدّث عنهم النّاس لأنّه يبتَغي ما عند الله لِعلمهِ أنّ ما
عند الله خير وأبقى وعُذرُنا أنّنا نودّ أن نكتب عن بلد وما كان لذلك
البلد أن يُذكرَ إلاّ بأمثال هذا الرّجل وهم والحمد لله كثير وسيكون لهم
بين صفحات هذا الموقع مكانهم إن شاء الله، هذا أولا، أما ثانيا فنحن نريد
أن نُقدِّمَ النّموذج الحي لكل من يريد أن يُكتب له الخلود في ذاكرة
الأجيال ...
فتقبّل منّا سيدي هذه الكلمات المتواضعة واعذرنا عن كل
تقصير في حقك وإن لم نكتب كل شيء عنك فذلك لأنّنا لا نملك من المعلومات
إلاّ ما كان ظاهرا لنا غير أنّنا نترك الموضوع مفتوحا لكلّ من لديه إضافة
أو تعديل
إخوتي الكرام :
أكيد من عايش تلك الحقبة قد عرف
الرّجل الذي أعنيه أمّا الجيل الجديد فنظنه مشتاقا لكشف النّقاب عن هذه
الشخصية التّاريخية ،، نعم إنه أحمد بن الميلود محفوظي الذي خدم بريد
الهامل طيلة سنوات. وما أدراك ما البريد؟ إنه موضع الأسرار وقد خدمه في
فترة نحسبها كانت من أزهى الفترات من حيث نشاط مكتب البريد، فالفترة التي
أعنيها هي تلك التي كان فيها أغلب سكان الهامل في ديار الغربة فكان هو همزة
الوصل بين العائلات وذويهم، فمن منا لم يكن ينتظره بفارغ الصبر ليحمل
إلينا تلك الرّسائل التي تنطوي على الأخبار السّارة إنه بشير الخير دائما
يفرح به الصّغار ( أبناء المهاجرين وأمثالهم ) ويفرح به الكبار ( الوالدون
والزوجات ) فلا غرابة أن ينال كل هذه المحبة في قلوب الجميع كما كان
المهاجرون يقدرونه أيما تقدير لما يقدّمه من خدمات لأهليهم.
إنها
فترة لم يكن فيها الهاتف في كل بيت ولم يكن فيها الهاتف الرقمي معروفا إن
لم يخترع بعد وكانت وسائل التّنقل بسيطة فالبريد حينها كان ينقله السّيد
دويدي علي بن عمر رحمه الله صاحب سيارة الأجرة الأول والمعروف بأمانته
وتفانيه في خدمة أهله هو أيضا ، فكان السّيد أحمد بن الميلود يعمل في مكتبه
حتى منتصف النهار ليتوقف عن العمل لا ليستريح بل ليرك
ب
دراجته الحمراء وينطلق في شوارع الهامل الغير معبدة الموحلة لا يثنيه برد
ولا حر ولا مطر ولا رياح ، لا يتأخر عن موعده أبدا لينقل الرّسائل إلى
أهلها ومن أمانته كان لا يرسل الرّسائل حتى مع الأبناء بل يسلّم لكل واحد
رسالته بنفسه وكم كان ينزل من درّاجته ويدخل إلى البيوت ليسلّم إلى
المسنّين والعجزة أماناتهم يدا بيد ،، هذه هي الأمانة .....
ويرجع
مباشرة لمواصلة عمله بالمكتب وما هو ذلك العمل؟ إنه عمل لا يستطيعه أحد
إلاّ أحمد بن الميلود ،، فإلى جانب عمله الرّسمي كان أهل البلدة يجهلون
الفرنسية وكانت الثقة متبادلة بينه وبين الأهالي حيث كنا نكتب على المظروف
البريدي العبارة المشهورة : تبلَّغ بيد السيد :............ ونكتب اسم
المرسل إليه فقط بالعربية والباقي على أحمد بن الميلود إذ كان يكتب
العناوين كاملة بالفرنسية فهو يحتفظ لديه بقائمة جميع الأهالي حسب أماكن
إقامتهم من العالم ، نعم هذا هو الإخلاص والتفاني في العمل ،،، أما الطّابع
البريدي، فقصّته تستحق الوقوف طويلا حيث كنا نكتب عبارتنا التي ذكرتها على
المظروف ونضعها في علبة البريد بدون طابع ونضع معها قيمته أي عشرين سنتيما
أليست هذه هي الثّقة الكاملة بين الخادم والمخدوم ؟!!!!!!
وهل كان
له وقت للراحة؟؟ لا أظن ذلك. فما أن يفرغ من عمله، حتى يأتيه من يريد كتابة
رسالة أو من يريد قراءتها فهو الكاتب والقارئ للرّسائل إذ لا يثق النّاس
إلاّ به لما عُرف به من أمانةٍ وكتم للسرّ هذا إلى جانب أنّ أغلب الأهالي
كانوا يضعون عنده أماناتهم فلم نكن نعرف يومها بنكا أو صندوق توفير أو
الصّكوك البريدية أو غيرها ،، هذه هي الأمانة !! فكيف كان يُسَيِّر كلّ هذا
بمفرده !!!!!!
أما خدمات الهاتف والتلغراف، فما كان يتأخر في إيصال
الخبر إلى أهله في حينه بوسيلته الخاصة دائما: الدراجة الحمراء التي لا
ينتهي دورها عند توزيع الرّسائل منتصف النهار فحسب بل يبدأ مع غروب الشمس
الموعد الثّاني حيث يشرع في توزيع الحوالات البريدية والطّرود تحت جنح
الظّلام، هدفه ستر النّاس فللّه درّك يا أحمد بن الميلود ،، وكم كانت
درّاجته لا تستطيع حمل كلّ شيء فيرجع للمكتب ليعود مرّة ومرّتين غير مبال
بالعوامل الطبيعية حتّى ينتهي من توزيع كل ما لديه ولا ندري على أي ساعة من
اللّيل يدخل لبيته
ولعل أحدا يتخيّل أنّ عدد السكان يومها لم يكن
كبيرا بل بالعكس كانت خدمة البريد أكثر منها الآن حيث كل الناس يستعملون
البريد لإيصال الرسائل والأموال وليست هناك وسيلة غيره أما الآن فالناس قد
استغنوا عن الرسالة لما وصلت إليه التكنولوجيا من تطور فالهاتف في كل بيت
والرسائل الإلكترونية تصل في رمشة عين وقد ألغي من حياة الناس شيء اسمه
التلغراف أما الأموال فخدمات البنوك متنوعة ومتعددة ، إلى جانب أن الهامل
يومها كان يحتضن آلاف الطلبة الذين كانوا يدرسون بالمعهد القاسمي ولم يكن
هناك وسائل بينهم وبين أهاليهم إلاّ البريد فكل هؤلاء خدمهم أحمد بن
الميلود ولم يخطئ يوما في اسم أحد أو ضاعت رسالة أحد أو حوالته أو طرده ،،،
هؤلاء كلهم كان أحمد بن الميلود يسلمهم أماناتهم يدا بيد وفي حين وصولها
.!!!!
أذكر أنه مرض خلال خدمته مرّة وأشتد به المرض فترى النّاس
جميعا يتألّمون لمرضه ويتلهّفون لأخباره ويتضرّعون إلى الله أن يعجّل له
بالشّفاء ، أحبّوه لأنه أحبّهم وخدمهم بكل إخلاص وتفان .
إخواني :
هذا هو أحمد بن الميلود كما عرفته وأكيد لم أذكر كلّ شيء عن الرّجل فقد
حاولت كتابة ما نحتاجه من حياته للعبرة فقط ولم أشأ أن أتطرق إلى جوانب
أخرى رأيت أنها من خصوصيات الرّجل فلندع له الكثير مما لا يحبّه أن يُكشف
وله من الله الأجر والثوّاب وجزاه الله عن أهله وبلده كل خير وحفظه ورعاه
إن شاء الله آمين
بعد هذه الوقفة مع الذاكرة أترك لكم المجال
لاستخلاص العبر من قصة هذا الرّجل وكلّ من أراد أن يحوز محبّة الناس ، وكل
من أراد أن يحوز ما حازه أحمد بن الميلود من قلوب النّاس فليتّبع النّهج
الذي سلكه ولا سبيل إلى ذلك غير هذا النهج ......
...........................................................................................
عنوان البريد الإلكترونى هذا محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تفعيل الجافا لتتمكن من رؤيته
انتقل
إلى رحمة الله رجل الأمانات السيد أحمد بن الميلود محفوظي يوم : 05 جوان
2009 م ببيته ووري التراب بمقبرة الهامل يوم السبت 06 جوان 2009 بعد
صلاة الظهر رحمه الله وأسكنه فسيح جنّاته وجمعنا به في الفردوس الأعلى
آمين
منقول من منتديات الهامل