العالم يتقدم ببطء ويتراجع بسرعة
بالتأكيد، ان التغيير من سنن الكون.. ومن سمات العالم أنه متحول باستمرار
.. سواء أكان هذا التحول إيجابيا تطوريا أم سلبيا تراجعيا، وفي هذه الفترة
التي يعيشها العالم كله، ثمة كثير من القضايا الكبرى المتحولة أبرزها
التحول الخطير واللافت والمقلق إلى حد بعيد للنظام الاقتصادي العالمي، وبما
أنني لست خبيرا اقتصاديا، وإنما متابعا ومطالعا فيه بتواضع، لا أقدم
تفسيرا ولا أقترح صيغة معالجة بقدر ما أنظر في الآثار والنواتج التي تطالني
مثلما تطال ملايين الناس من مختلف الشعوب، ففي لحظة صحا العالم على وقع
الأزمة ونداءات مراجعة حسابات ما يقارب (80) عاما وأكثر وصل فيها العالم
إلى أزمته المفتوحة على احتمالات كثيرة يتنادي الزعماء العالميون لبحثها
وتدارس مداراتها ومآلاتها.
أكثر ما يهمنا نحن شعوب الطراز الثالث (الفقيرة والنامية والمغلوبة على
أمرها) أن نعرف بالتحديد على أي مسافة تقف الأزمة منا..؟ فثمة الخبراء
الذين يقولون إن العالم كله متأثر سلبيا بها، وثمة الناس الذين شعروا بجدوى
الأزمة فيما حققته من تخفيف أعباء الغلاء وتقليل نسبة التضخم، فقد انخفضت
في الأسعار تدريجيا وانخفض البترول أيضا في وقت استقر في وعي الناس أن
الأسعار التي ترتفع قلما أو نادرا ما تعاود الانخفاض، لكن الأزمة المالية
التي تعصف بعالم المال والأعمال والاقتصاد كأنها تسونامي اقتصادي، جعلت من
الأسعار أكثر مرونة وتحكما.
ربما يكون هذا الأمر المتعلق بانخفاض الأسعار عارضا من عوارض الأزمة وطارئا
سرعان ما يزول، لكن الأزمة بالتأكيد ذات نفع، على أقل تقدير أنها خلقت
ظروفا لمراجعة الحسابات وتراكم الأخطاء ونبهت إلى أن مؤشر الأسعار لا يمكن
له أن يبقى تصاعديا أبدا كيما تزداد الفجوة الطبقية بين نخب الرفاه
والثراء، وجماعات الفقر، لأنه على العالم أن يكون متوازنا في كل الأشياء.
يحاول علماء الاقتصاد وخبراء المال تقديم تفسير مقنع والوصول لحل الأزمة،
مع ما في ذلك من صعوبة بالغة، لأن ما وصلت إليه الدول الصناعية الكبرى وعلى
رأسها أميركا لا يمكن أن يصنف على أنه علاج، بل وصفات مسكنة للأزمة من
خلال ضخ السيولة في الأسواق ومساعدة الشركات والمؤسسات المالية المتعثرة،
لأن الاقتصاد العالمي اليوم أشبه بالرجل المريض الذي يحقن بالمسكنات
والصعقات الكهربائية لإنعاشه، ويبدو أن الأمر مازال ضبابيا مشتتا بين كثير
من الآراء التي تناولت النظام الرأسمالي بالنقد أو الدفاع، والآراء التي
نظرت إليه من زاوية نظر سياسية، تماما مثلما يحاول الكثير إلصاق التهمة
بأميركا، وقد يكون الأمر فيه شيء من الموضوعية لأن أخطاء أميركا في عهد بوش
حاسمة على مستوى الداخل الأميركي وخطيرة على المستوى العالمي، ولأن معظم
الاقتصادات العالمية مرتبطة بالاقتصاد الأميركي الذي لوحده يشكل ما يتجاوز
الـ (40) من الاقتصاد العالمي.
هذه الأزمة ستكون سمة بارزة وعلامة فارقة ليس لهذا العام فحسب.. بل للقرن
الحادي والعشرين كله، تماما مثلما كان الركود الكبير في بدايات القرن
الماضي علامة فارقه له.
التغيير الآخر الذي يطال العالم، وينتظر أن يكون حاسما ومهما، هو تغيير
سياسي بامتياز، من خلال الانتخابات الأميركية وانتهاء عهد بوش الابن،
والانتخابات الإيرانية ومن سيخلف أحمدي نجاد، وأفغانستان أيضا، وأيضا في
فلسطين مع قرب انتهاء ولاية محمود عباس مع ما يدور من بحث ومحادثة لتمديد
فترة ولايته أو تأجيل الانتخابات الرئاسية، وقد سبق كل ذلك، مجيء ليفني في
إسرائيل وغوردون براون في بريطانيا وساركوزي في فرنسا وديمتري ميدفيديف في
روسيا. بمعنى أن الزعامات العالمية الكبرى وأيضا الزعامات الفاعلة في
المنطقة، بمعنى أن هناك عهدا عالميا قادما، لا يدعو للتفاؤل بقدر ما يطرح
من تساؤلات حول مصير الأزمات العالمية التي ترحَّل إليهم، وأخطرها القضية
الفلسطينية التي تواجه كدرا كثيفا يدعو للتشاؤم، ولعلني أذكر هنا أن الملك
عبدالله الثاني أشار بوضوح إلى مقدار هذا التشاؤم الذي يعكر صفو عملية
السلام، وقد وضع مرات كثيرة نصب أعين القوى الكبرى مخاطر الفشل في القضية
الفلسطينية، أو المماطلة بها وتسويفها، لأنها مفتاح الحل لكثير من القضايا
والأزمات.
قد يبدو واضحا من هذا أن العالم يتطور في جانب ويتراجع في جوانب كثيرة،
لذلك عليه أن يبقى مهيأ لتلقي المزيد من الأزمـــــات، وهــو بذلك يحقــــق
معــــادلــة التقـــدم ببـــطء والتراجـــع بسرعة.